الفتنة سنة كونية في هذه الحياة، لا تخلو منها حياة الأمم والأفراد على حد سواء، دل على ذلك قوله عز وجل: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} (العنكبوت: 2).
وهي عادة ما تدل على شر ينزل بالإنسان، وقد تدل أحياناً على خير يراد به، أرشد لذلك قوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء: 35).
ولفظ (الفتنة) ورد في القرآن الكريم في ستين موضعاً؛ ورد في ستة وثلاثين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} (البقرة: 191).
وورد في أربعة وعشرين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} (النحل: 110).
ولأهمية هذا اللفظ في منظومة المفاهيم القرآنية، ومعرفة مدلولاته نعقد السطور التالية، بادئين بوقفة لغوية نحدد من خلالها الأصل اللغوي لهذا اللفظ، ثم نعطف على تلك الوقفة بوقفة ثانية، نستبين من خلالها أهم المعاني التي ورد عليها لفظ (الفتنة) في القرآن الكريم.
الأصل اللغوي لمادة (فتن) يدل على ابتلاء واختبار. وأصل الفتن: إدخال الذهب النار؛ لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار. قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات: 13)، يقال: فتنت أفتن فتناً. وفتنت الذهب بالنار، إذا امتحنته. وهو مفتون وفتين. والفتان: الشيطان. والفتن: الإحراق. وشيء فتين: أي محرق.
هذا هو الأصل اللغوي لمادة (فتن)، أما المعاني التي ورد عليها هذا اللفظ في القرآن الكريم فهي عديدة، نذكر منها:
- الفتنة بمعنى (الابتلاء والاختبار)، من ذلك قوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} (العنكبوت: 2)، معناه: أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي ويختبر عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان. ونحو ذلك قوله سبحانه: {وفتناك فتونا} (طه: 40)، أي: اختبرناك اختباراً حتى صَلَحت للرسالة. وعلى حسب هذا المعنى جاء أكثر استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم.
- الفتنة بمعنى (الشرك)، من ذلك قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} (البقرة: 191)، أي: الشرك بالله أعظم من أي فعل آخر. نُقل هذا عن عدد من التابعين. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (البقرة: 193)، أي: حتى لا يكون شرك، كما قاله غير واحد من المفسرين.
- الفتنة بمعنى (الكفر)، من ذلك قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} (النور: 63)، قال الطبري: الفتنة ها هنا: الكفر. ونحو قول الطبري قال ابن كثير. وقال بعض المفسرين: (الفتنة) في الآية بمعنى (العقوبة في الدينا). وقيل غير ذلك.
- الفتنة بمعنى (أذى الناس)، من ذلك قوله تعالى: {جعل فتنة الناس كعذاب الله} (العنكبوت: 10)، قال البغوي: أي: جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة. ونحو ذلك قوله عز وجل: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} (النحل: 110)، أي: عُذبوا ومُنعوا من الإسلام.
- الفتنة بمعنى (التعذيب بالنار)، من ذلك قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} (البروج: 10)، قال ابن عباس رضي الله عنه وغيره: حَرقوا. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {ذوقوا فتنتكم} (الذاريات: 14)، قال مجاهد: حريقكم.
- الفتنة بمعنى (القتل)، من ذلك قوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} (النساء: 101)، قال البغوي: أي: يغتالكم ويقتلكم. ونحوه قوله سبحانه: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم} (يونس: 83)، أي: يقتلهم.
- الفتنة بمعنى (العدول عن الحق)، من ذلك قوله تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} (المائدة: 49)، قال الرازي: أي: يردوك إلى أهوائهم؛ فإن كل من صُرف من الحق إلى الباطل فقد فُتن. ومنه قوله عز وجل: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك} (الإسراء: 73).
- الفتنة بمعنى (الضلالة)، من ذلك قوله تعالى: {ومن يرد الله فتنته} (المائدة: 41)، قال الشوكاني: أي: ضلالته. ونحو هذا قوله سبحانه: {ما أنتم عليه بفاتنين} (الصافات: 162)، أي: بمضلين.
- الفتنة بمعنى (الحُجَّة والمعذرة)، من ذلك قوله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا} (الأنعام: 23)، أي: لم تكن حجتهم ومعذرتهم إلا قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين}، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
- الفتنة بمعنى (الجنون)، من ذلك قوله تعالى: {بأيكم المفتون} (القلم: 6)، أي: بأيكم الجنون، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره الطبري، على اعتبار كون {المفتون} بمعنى (الفتون)، من باب حمل اسم المفعول على معنى المصدر. وكون (الجنون) فتنة؛ من جهة أن العدول عن سبيل أهل العقول هو محنة وفتنة.
هذه أهم المعاني التي ورد عليها لفظ (الفتنة) في القرآن. ويبقى وراء ذلك أن نقول: إن الفتنة من الأفعال التي تكون من الله تعالى، ومن العبد كالبلية والمصيبة، والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال المكروهة.
ومتى كانت (الفتنة) من الله، فإنها تكون على وجه الحكمة، كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}؛ ومتى كانت (الفتنة) من الإنسان كانت على عكس ذلك، كما قال سبحانه: {يا قوم إنما فتنتم به} (طه: 9)؛ ولهذا يذم الله الإنسان بأنواع الفتنة نحو قوله: {والفتنة أشد من القتل}.
المصدر: موقع إسلام ويب